ألفياء للمبادرات المجتمعية

الديوانغير مصنف

الخوف وزوسكيند والحمامة

By سبتمبر 25, 2024أكتوبر 12th, 2024No Comments1 min read
الخوف وزوسكيند والحمامة

رسمة للفنانة طيف 

(في ذلك الوقت الذي كانت حكاية الحمامة قد استولت عليه لتنغص حياته يوما بعد يوم، كان جوناثان الذي تخطى الخمسين من العمر يستطيع أن يلقي نظرة على العشرين سنة الأخيرة من حياته فيجدها خالية من الأحداث، ولم يكن يتوقع حدوث أي شيء مهم باستثناء الموت ذات يوم)، بهذه الكلمات يفتتح  الروائي الألماني (باتريك زوسكيند) روايته الحمامة، ليكشف لنا عن شخصية جوناثان الكهل الذي عاش حياة نستطيع وصفها بأنها ما زالت مغلّفة بالورق المقوى، حياة توازي الموت أو تشابهه، أساسها الثبات والسكون وتجميد للذاكرة وللمشاعر، إلى أن احتلّت حمامةٌ الفسحة الممتدة من باب حجرته إلى باب الحمام المشترك في البناء الذي سكنه خلال السنوات العشرين الماضية – حلّت لتهدم كل السكون والرتابة المفروضة والاطمئنان المزيف الذي أقنع جوناثان نفسه بأهميته وجدواه، حيث إنه ما كان يتوقع أو ينتظر حدثاً مهما إلا الموت ذات يوم، وعندها سيكون الموت بهذا المعنى خلاصاً.

كان كل همّ جوناثان أن يبني شرنقة تعزله عن الآخرين وتؤمن له الحماية من اهتزازات الزمن، تلك المحارة التي سكنها في الغرفة 24 والتي بدأت تتسع إلى الداخل مع مرور الزمن لتراكم احتياجاته فيها. لكن تلك الشرنقة كانت بالغة الهشاشة بحيث استطاعت تهشيمها حدقتا حمامة عابرة، بلونها الرمادي الكئيب ومخالبها الحمراء، لون الدخان والدم، فالحمامة وإن كان يراها البعض رمز السلام فإن جوناثان يجدها علامة على الخراب والفوضى، فلا أحد يستطيع أن يعيش مع حمامة، ذلك ما قاله، إنه انسحاق الإنسان المعاصر أمام الفواجع الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية. فجوناثان نتاج جيل الحرب العالمية التي دمّرت معالم الحياة الاجتماعية للناس، الحرب التي لم تفقد الناس عائلاتهم فقط بل أخلاقياتهم أيضا. فما كان باستطاعته إلا أن يعتزل الناس ويعزل نفسه في محاولة لحماية الذات من أي مصدر خطر.

قد يجمّد الكثير من بني البشر ساعات حياتهم خوفاً من المجهول، خوفا من الآخر، خوفا مما قد يأتي، وخوفا مما لن يأتي، وخاصة في زمن الحروب التي قد تطول وقد تقصر، لكن تبعاتها لا تتوقف عند انتهائها بل تنفث سمومها أعواما بعد ذلك، فتنهك البشر بما تعيثه حولهم من موت ودمار وضياع وخراب، لكن الخوف ليس حلاً فيما يرى زوسكيند، فالحياة لا تتوقف إن أوقفنا ساعات أيدينا، والسنوات العشرون التي كانت خالية من أي حدث يذكر في حياة جوناثان؛ قد تمتد عند غيره لتصل إلا ثلاثين أو أربعين، فتمضي السنون آخذةً معها عشرين ألف لحظة للفرح، ومثلها لحظات للحب، وأضعافها لابتسامات السعادة، وللدموع آلاف اللحظات كذلك، وآلاف للدهشة والبهجة. عشرون ألف لحظة للعواطف ضلت طريقها نحو القلوب المرهقة بالخوف الذي عطّل كل نظام الحس وشَغَل دقاته بالجزع والرعب الذي ما إن يتأصل في قلب إلا ويملكه ويستعبده فلا ينبض ولا يدق إلا لخطر مرتقب، فمع الهلع والذعر لا وقت لمشاعر أخرى.

ولكل فرد خائف شرنقته الخاصة التي يحتمي خلفها، لكنها جميعها تبقى هشة، ما دامت قابلة للزوال والاندثار والضياع ذات لحظة مباغتة – وهذه اللحظة هي ما يحتاجه الفرد ليتحرر من خوفه عندما يتكسر الجليد تحت أقدامه مرة واحدة، وتتهشم النوافذ التي كان يختبئ خلفها، ويجد الفرد نفسه في مواجهة خوفه، عندها فقط يستطيع أن يواجه الحياة بعقلية محارب،كما فعل جوناثان في الرواية حين قرر العودة مرة أخرى إلى بيته ليواجه الحمامة، فلا شيء أكثر يخسره من سنواته الضائعة في الاختباء، لذا فإن السؤال المبرر يكون هنا: هل كانت حمامة جوناثان بمنزلة الكتلة المعدنية الثقيلة التي تشد الروح وتغرقها بتسارع أكبر؟ أم كانت حبل النجاة الذي خفف روحه من أعباء الخوف وما يجره من ويلات؟!