ألفياء للمبادرات المجتمعية

غير مصنف

الرجال الذين يحادثونها

By أكتوبر 8, 2024أكتوبر 11th, 2024No Comments1 min read
الرجال الذين يحادثونها

لوحة للفنانة نجلاء دويري

امتلكَتْ القدرة أخيراً على هجر بيتها وأسرتها ، وسارت بلا حقيبة إلى فندق قريب، يبعد شارعين عن منزلها، وجلست تسرد روايتها هي، بل رواية لكثير من النساء التي خاطبتهم في رواية (الرجال الذين يحادثونني). تعاتب (آناندا ديفي) نفسها حين تهمس ( قولي لنفسك إن حياتك كلها كانت وهما. ما خلتِ أنه من الكياسة كان السهولة في قول: نعم، لأي شيء. وما خلتِ أنه من المسامحة كان من الضعف، وما خلتِه تضحية بالنفس كان من الجبن. عندما كنت تظنين، خصوصاً، أنك تحمين أطفالك، فإنك كنت تحمين نفسك من قرار رهيب: الرحيل )، ذلك ما كان يجري، فباسم التضحية والمسامحة والكياسة، سلبت حياتها كما حياة كثير من نساء جلسن مستكينات راضيات بالقسوة التي تمارس بحقهن، مهما اختلفت (لفظية أم فعلية)، بعضهن حُبِس داخل دور موحشة قافرة من المشاعر، عانين بصمت، وقلن لأنفسهن: أنا امرأة، ودوري في الحياة أن أكون مضحية، في سبيل عائلتي، في سبيل أبنائي، خانعة لأن الأصوات التي سمعتها وما زالت؛ أسَرَتها في تلك الصورة المستكينة الراضخة والمطيعة. ووصفت ذلك بحسن الخلق والأدب والتضحية ذات المقام الرفيع، وما هي إلا حياة وتمضي. لكن البطلة تتسائل أيضا ولو بحياء ألا يحتاج الابن إضافة إلى التضحية أُماً قوية وشجاعة، أليست الشجاعة معدية وتنتقل بالوراثة من جيل إلى جيل؟ ألا يتعلم الابن في بيته أيضاً  كيف يواجه الصعاب، وأن لا يستكين ولا يرضخ !

إن بطلة الرواية، مثقلة بأحمال وأقوال توارثتها النساء جيلا بعد جيل، حملنها عباءات يخفين بها هشاشات الروح وضياع العمر. كانت حياتها سلسلة من أقوال الرجال الذين صبغوها بأفكارهم، وما يجب وما لا يجوز. استسلامها أمام كل تلك الهجمات اللفظية والفكرية التي شكلتها ؛ انتقل بدوره إلى ابنها الذي عانى سنوات طويلة من الانكسار والهزائم، كانت تود أن تقول له أن ما يتمناه ينتظره خارج غرفته التي حبس نفسه فيها، واعتزل العالم بسبب كآبته وتداعيه. وأرادت أيضا أن تقول إن الموهبة التي ولدت معه لها دورها في حياته لكنها لم تستطع القول.. لأن الرجال هم الذين يحادثونها ؛ هم الذين يشكلونها، هم الذين يقولون، وهي تكتب..!

أما الكتابة هنا فهي فعل حياة في مواجهة فعل الموت، فهي تروي كي تعيش، تروي من أجل كل النساء، فالكلمات ملجؤها، وحكاياتها، وهي المكان الذي تتشكل فيها صورتها التي تستحق أن تكونها، خاطبها رجل من ضمن من يحادثونها وقال لها بسخرية: ماذا تجيدين في الحياة غير الكتابة؟ أجابته لا شيء! لأن هذه اللاشيء لا تساوي شيئاً ولا تعدو كونها إداراة الشؤون اليومية التي تجر الخيبات، أما الكتابة فكانت عالمها الذي من أجله تعيش.. هي تكتب  كي تنقذ حياتها كما فعلت شهرزاد قبل قرون عديدة في ألف ليلة وليلة، هي جريئة على الورق وفقط. تجد نفسها في شخصياتها تقول : “جميع نسائي اللواتي يشبهنني مثل نقاط الماء المتشابهة.. هن لسن أنا. أنا فقط أعطيتهن بعضا من رأسي، من قلبي، من فكري، من روحي، وخصوصا من جسدي، أعطيتهن كل شيء تقريبا، وأخذت منهن كل شيء تقريبا “، لذلك فإن بقاءها على قيد الحياة كان مرهونا بكتابتها وخلق شخصياتها.

وما صورة ذلك الابن المنهزم إلا صورة مكرورة عن شريحة واسعة من الأبناء المستكينين الخائفين، بحكم أنهم مؤدبين ولا يحبذون المشاكل كما أنهم بطبيعة الحال غير مبدعين في اكتشاف حلول غير مطروقة، ولا يملكون القدرة على الرحيل، لأن قرار الرحيل قرار صعب. وقلة من الناس فكيف الحال بالأمهات من يستطيع القيام به!

ولأنه دوما هناك متسع من الوقت لكي يتعرف الإنسان على نفسه، ويغير من خط سيره – حتى لو كانت سنواته المتبقية قليلة؛ فقد امتلكت القدرة أخيراً، ورحلت محملة بأقوال الرجال الذين يحادثونها ويرسمون لها طريقها.. وتكمل سرد حياتها.