الصورة: سجاد يدوي من إنتاج سيدات قرية الحرانية في مركز رمسيس ويصا بمحافظة الجيزة في مصر
ما تعلمته في حياتي من الفلاحين وأصحاب الصنائع والبسطاء وممن لم يكن لهم حظ الالتحاق بمؤسسات التعليم النظامية، كثير، لا يقل أهمية عما تعلمته من الكتب ومن أساتذتي العلماء وفي المؤسسات التعليمية، بل كثيرا ما كنت أجد عند هؤلاء البسطاء أفكارا سابقة لقراءاتي ومعارفي، وخبرات قد يطول الزمن بي بين الكتب كي أتعلمها.
نحتاج لدراسة وتحليل “الفكر الثقافي”عند هذه الشرائح لأنهم الغالبية العظمى المعبرة عن الاتجاهات العامة للوعي وطرق التفكير والتعبير والإنتاج الثقافي إجمالا، وهم الحقيقيون الممثلون لهوية الأمة.
وتكفيني الإشارة هنا على سبيل المثال إلى “المثل الشعبي” الذي هو نتاج ثقافي لهؤلاء الحقيقيين الذين أتحدث عنهم.
نعلم جميعا أن هناك دراسات وبحوث وكتب في الفنون الشعبية وعلاقتها بثقافة المجتمع، ودراسات أنثربولوجية عديدة ترصد حركة التركيب الطبقي للمجتمع وعلاقتها بالثقافات السائدة، وجميعنا يعلم أن هذه الثقافات هي نتاج حركة المجتمع ووعيه، لكن لأننا نعيش بالفعل قطيعة معرفية مزدوجة، وجهها الأول يتمثل في القطيعة بين العلوم وبعضها، نظرا لانغلاق أصحاب التخصص على دوائرهم إلا ما ندر، ووجهها الثاني يتمثل في القطيعة بين نتاج المعرفة إجمالا وبين المجتمعات في واقع حياتها، وكلتا القطيعتين تفضيان إلى القطيعة الأكبر مع الحراك الحضاري السائد والتحول من نموذج الإنتاج إلى نموذج الاستهلاك.
أما القطيعة بين العلوم، فقد لا تتوقف فقط عند إلمام صاحب التخصص في الاجتماع مثلا بفروع ومجالات العلوم الإنسانية أجمع، وإنما في الاتصال مع العلوم التطبيقية، والعلوم البينية، وما يمكن أن يندرج في سياق الإنتاج المعرفي، وإلا فما علاقة نظريات الفيزياء مثلا بالبحث في علم الاجتماع ومساراته وحجم استفادته من منجزه وقواعده (علم الفيزياء)؟ أين استفادة علم الاجتماع من ذلك؟، وقد يحدث العكس في استفادة الفيزياء من علم الاجتماع ورصد التشابه مثلا بين حركة المادة مع المواد الأخرى وحركة الإنسان مع البشر من حوله، أين باحثوا العربية من هذا المسار؟، كم من النماذج التي يمكن رصدها في واقعنا العربي تحتكم إلى الثقافة الموسوعية (سمة علماء التراث أجدادنا) ؟ وكم من الكتب والدراسات التي يمكننا الوقوف عليها يتحقق فيها هذا التزاوج الذي يهدم أسوار القطيعة المعرفية؟.
وأما القطيعة الثانية، بين النتاج المعرفي والمجتمع، فليس أدل عليها من أننا نتكلم لغة ونكتب بلغة، نعيش بلغة ونعبر عن أفكارنا بلغة، ومن المعروف للدارس المتخصص أن اللهجات العامية العربية (المصرية، العراقية، السودانية…. إلخ ) لها أبنيتها التي تمكنها من أن تكون لغة مكتملة النظام غير أن ذلك لم يتم استثماره على مر العصور، هذه القطيعة تؤكد أننا ننقسم لقسمين متباعدين، قسم يشتغل بالعلم ويتعامل معه ويفهم لغته، وقسم يمثله عامة الشعب يكاد لا يفهم ما يتم تداوله علميا ومعرفيا وبالتالي هو في واد آخر يمثل ثقافة أخرى قد تقترب وقد تبتعد وقد تتعارض مع الثقافة المنتمية للعلم.
واقعنا العربي يحتاج إلى قراءة خارج الكتب قليلا، وخارج النظريات العلمية الواردة من فكر آخر، وخارج التغريب الذي وقعنا فيه فصرنا نطبق نظريات غربية على ثقافة عربية بدون تكييف، وخارج التمسك بمعطيات التراث فقط، خارج ذلك كله، بالاهتمام بقراءة الواقع الفعلي لدى أصحاب الثقافة المجاورة للثقافة العلمية والمتوازية معها، ثقافة الشعوب من عمال وفلاحين وأصحاب صنائع وموظفين في عالم البطالة:
- فهؤلاء هم الحاملون الحقيقيون لقيم التراث القابلة للتطبيق، هذا إن كنا نبحث عن إعادة صياغة لمنظومة القيم.
- وهم الحاملون الحقيقيون لتقاليد وعادات الشعوب القابلة للمحافظة عليها بوصفها مكونا من مكونات الهوية، هذا إن كنا نبحث عن رصد ملامح هوية المجتمع في ظل محو العولمة للحدود والفوارق بين الأشياء والبشر.
- وهم المادة الأصل الثرية للأدب ونماذجه، والدراسات الإنسانية وعيناتها، هذا إذا كنّا نبحث عن الفنون التي تعيد صياغة شعوبها، وتمنحها مكانة بين الشعوب، وتدل عليها عالميا.
وهو المؤشر الحقيقي لواقع الاقتصاد، وآليات إنتاجه، هذا إن كنّا نبحث عن معطيات لبناء اقتصاد قوي يمكننا من المواصلة في هذا العالم المتوحش، وقد دلت التجارب الفعلية مؤخرا على مدى فاعلية الشعب المصري في الالتفاف ومساندة أي مشروعات كبرى تتبناها الدولة.
يمكن استثمار قراءة كل ذلك، وقراءة المجتمعات العربية قراءة ثقافية متأنية، تمكن العلم العربي من أن يكون علما له وجود، وتمكن المجتمعات العربية من رؤية نفسها على خشبة المسرح لتتأمل أفعالها وترى صورتها الحقيقية بين الشعوب بديلا عن الفخر بـ “كان أبي”، و “أولئك أجدادي فجئني بمثلهم”، وغيرها من عيوب العقلية العربية التي لم تستطع الانتباه إليها بعد.
هذه التأملات لم تكن فقط نتاج القراءة والتعليم وإن كانا هما الأساس، وإنما هي أيضا نتاج التعايش مع المجتمع، ومراقبة وجوده وفكره ونتاجاته، ولذا نحتاج كما نتعلم من مصادر العلم، أن نتعلم أيضا من أصحاب الثقافات الفرعية ( الشعبية والريفية والصحراوية…إلخ )، فهي المفتاح الأول لأي بوابة، وهي التي يكون وعيها إما دافعا للتحرك، أو معيقا له تماما، وقد دلت التجارب في تاريخنا المصري على أنه حين كان هناك تعليم عام جيد ترعاه الدولة، كانت تنتج عنه نهضة جيدة، مثلما حدث في عهد محمد علي ما أنتج الطهطاوي وأقرانه، وفي نهاية عهد الملك فاروق، ما أنتج فنونا وآدابا مثلت مطلع العصر الذهبي للفن في مصر، وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، من اهتمام بالإذاعة والتليفزيون ونشر الكتب ومكتبات الشعب، ما أنتج أدباء وأعلام وفناني القرن العشرين، وهكذا يكون العكس، فعندما يقل الاهتمام بالتعليم وتتدنى جودته تكون الشعوب غولا يلتهم كل معدلات التنمية، بل يقضي على الأصول، مما ينذر بالخراب الشامل.
نحتاج لأن نقرأ بنية ثقافة مجتمعاتنا خارج المؤسسات الرسمية، وأن نهدم الأسوار التي بنيناها حول جامعاتنا ومعاهدنا ومعاملنا ومراكزنا وتخصصاتنا وبالتالي حول عقولنا، نهدم الأسوار التي وسعت الهوة بين شرائح المجتمع وأطرافه وماضيه وحاضره في عالم يتطور باستمرار بفعل العلم والتطبيق العملي على واقع الحياة وبالاهتمام بالفرد والإعلاء من شأنه وليس تجاهله بوصفه عبئا على الدولة أو تأخير مرتبته ومكانته في أولويات الحكومات. رفقا بهذا الوطن، ولننظر إلى عقول هذه الشعوب وليس إلى بطونها، لنساعدهم على أن يمتلكوا العقول التي تمنحهم القدرة على الإنتاج ليعتمد كل منهم على ذاته في تغذية بطنه، ليكن اهتمامنا بدعم التعليم الجيد الذي لا ينفصل عن تيسير أدوات الثقافة والتثقيف، ولا ينفصلان عن اهتمام بالشباب وبنيته العقلية والجسدية، ليكن اهتمامنا بدراسة وتأمل هذا الشعب والعمل له ومن أجله في التعليم والصحة والاقتصاد والسياسة والدين والفن وكل ما له علاقة بهذا الإنسان في واقعه وحياته.