يقول يحيى حقى: “ليس هناك مكتوب نافس القرآن على قلوب المصريين إلا بردة المديح للبوصيرى”.. كان المصرييون يكتبونها بماء الذهب وبالدم على الرق الثمين، ويضعونها فى أكياس من الحرير والقطيفة، وكانت هدية العظماء للعظماء، وكان لحفاظه
ا ومنشديها مكانة خاصة لدى الناس، وكانت تنشد فى التجمعات وفى الأفراح وفى استقبال الحجيج وفى الذكر والموالد، وفى حفلات الطهور والسبوع والزواج، وكانت تكتب على جدران المبانى الفخمة كالمساجد والوكالات وتجدونها تزين الجدران الداخلية لمسجد محمد على الكبير بالقلعة، وعرف السلاملك ببيت السحيمى بالدرب الأصفر بالجمالية وكان منشدوها ينشدونها وهم يسيرون فى مقدمة الجنازة فهى فى يقينهم خير شفيع لمن مات.
ويحكى طه حسين فى أيامه كيف كان شيخ كتابه الضرير البدين يقف به وبزميله فى الطريق وهما يقودانه، وهو يوقع بيديه على صدورهم منشدا أبيات البردة بصوت أجش عال.
والبوصيرى ولد فى قرية بوصير من أعمال بنى سويف، سنة 1213، ومات سنة 1295، فيكون قد عاش شبابه زمن الأيوبيين وكهولته وشيخوخته فى زمن المماليك، وهو واحد من سادة صوفية الصف الثانى فهو لا يدانى الدسوقى ولا الشاذلى ولا البدوى ولا القناوى.. يروى أنه فى ليلة ذات شتاء قارس وقبل أن يتهيأ لصلاة العشاء أصابه “الفالج” أى الشلل، وكان وحيدا، فشعر أنها النهاية ونام وهو يرتعش باكيا مرتاعا، غير أنه قبيل آذان الفجر قد رأى فيما يرى النائم، أن رسول الله”ص” يجلس فوق رأسه ويمسد بيده الشريفة على رأسه وشعره ووجهه، ثم وقف الرسول “ص” وخلع بردته وغطاه بها، فاطمأن قلب الرجل وغط فى نوم عميق.
وتنبه وهو يسمع آذان الفجر يأتي من بعيد، فوجد نفسه يهب من نومه مصحا عفيا سعيدا بما رأى من منام وهو يعرف يقينا “أن من رأى الرسول فى المنام فقد رآه حقا فالشيطان لا يتمثل به” فراح يستحم بماء بارد من عرق غزير يصلى الفجر، وينام ليلقى الله على قلبه البردة كاملة بأبياتها المئة والستين، وللصوفية أحوال لايعرفها إلا العارفون.
وتقع أبيات البردة فى أجزاء منه الغزل والتحذير من هوى النفس ومدح الرسول وجهاده ومعجزاته والتوسل به ومناجاته،
ومن أبياتها:
أمن تذكر جيران بذى سلم … مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
لولا الهوى لم ترق دمعا على … طلل ولا أرقت لذكر البان والعلم
فكيف تنكر حبا بعدما شهدت … به عليك عدول الدمع والسقم
واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت … من المحارم والرزم حمية الندم
وخالف النفس والشيطان واعصهما … وإن هما محضاك النصح فاتهم
استغفر الله من قول بلا عمل … لقد نسبت به نسلا لذى عقم
نبينا الآمر الناهى فلا أحد .. أبر فى قول لا منه ولا نعم
هو الحبيب الذى ترجى شفاعته .. لكل هول من الأهوال مقتحم
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة … تمشى إليه على ساق بلا قدم
يا أكرم الخلق مالى من ألوذ به … سواك عند حدوث الحادث العمم
يارب بالمصطفى بلغ مقاصدنا … واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم
ومات البوصيرى بعد أن طبقت شهرته الآفاق بفضل بردته المباركة فدفنه رفيقه ومحبه ومريده أبو العباس المرسي فى مقبرته التى صارت مسجده العظيم بالأسكندرية.