اللوحة للفنان التشكيلي يوسف الحداد
انتظرت عذرًا باهتًا من أعذاره الكثيرة التي كان يقدمها لتأخره في كل مرة ننوي اللقاء فيها، فما أقبح هذه الأعذار المُعَلَّبة، مرة بمرضه، وأخرى بدراسته، وثالثة بعمله الكثير وكأنه صار جميع موظفي إدارته، لا شيء يعمل دونه، ولا قلم ينقط حبرًا إلا إذا أمسكه بين أصابعه التي أحببتها من صوره، لا أعلم ما سر جاذبية هذه الأصابع؛ أتلك الكلمات التي تخرج من تحتها فتأخذ بعقلي وقلبي، أم كتاباته التي أقسم لي أكثر من مرة أنه لا يؤمن بها، ولكن المزاج العام للجمهور يحبها، على كلٍّ لا ينبغي له أن يخلف وعده هذه المرة؛ فهو من طلب اللقاء وقد أخفيت الأمر عن أمي، أخبرتها أنني ذاهبة لزيارة صديقة لي وأنني لن أتأخر.
ها هو قد وصل أخيرًا، اتجه صوب الترابيزة التي اعتدنا الجلوس حولها، بسرعة لاحظها زبائن المقهى، ولاحظتُها أنا أيضًا في عين العجوز الذي ابتسم لي كأنه ينبهني لأمرٍ ما، كان جبينه يغطُّ عرقًا، صوته متهدجًا، ورائحة تبغه تفوح من أنفاسه، جلس ولم يبدِ ابتسامته المعهودة قبل الاعتذار عن التأخير، ارتد نور المصباح الذي علانا من ساعته الذهبية، هيئته توشي أنه لم يكن مستعدًا للقائي، معطفه الرمادي والبلوفر الصوف الكُحلي، وبنطاله الأسود، وشعره المتموج، ونظارته التي كساها بخار ماء أنفاسه المتسارعة، كل هذا كان يقول إن أمرًا ما حدث أو سيحدث، نعم أذكر جيدًا تلك التفاصيل، كأنها تُعاد أمامي الآن، تُعاد بكل ما تحمل من ذكرى ومِن خيبة.
***
بعد ثلاث سنوات، نغمة الهاتف نفسها، ليلة شبيهة بتلك، والرائحة القديمة تلف المكان، خدر في جسمي كله، ويد خفية تسحبني إلى المكان ذاته، حيث المقهى ذو الطراز الفرنسي، والترابيزات الخشبية والكراسي التي كُسيت بطبقة جلدية، وفازة الورد البلاستيكي التي توسطت الترابيزة التي لم يتغير رقمها «٣٦»، كان رقمًا مميزًا، في الحقيقة لا يوجد رقم مميز؛ إنما هي أحداث مميزة، فرحة مسروقة، وانكسارات مكررة، وأحزان شائخة، وزمن يدور لا يتوقف لالتقاط أنفاسه؛ فهو يعمل برئاتنا نحن البشر، لا.. نحن المخلوقات، بهذا الكم من الرئات لن يتوقف أبدًا عن الدوران.
أتى وقد امتلأ جسمه عن ذي قبل، تمدد كرشه، وتراجع منبت شعره للخلف، ولمحت بعض الشعرات البيض في لحيته، وغارت عيناه في محجريهما، سلَّم وجلس، استعار ابتسامته القديمة، وسؤاله عن حالي، ولكنه لم ينظر لي هذه المرة كما فعل في تلك، عيناه اتخذتا من الوردات البلاستيكية الموضوعة في الفازة أمامنا، هدفًا ثابتًا وهو في انتظار الأمر بالإطلاق، أشفقت على الوردات؛ فشعور أنك هدف شيء صعب، لا يتحمله أحد، وانطلاق رصاصة الرحمة أهون بكثير من الانتظار؛ فالوقت يغلي والماء ينفد والعيون تمارس إطلاق الرصاص قبل أن تضغط اليد على الزناد.
كان يوم ميلادي، قدم لي هدية في علبة مغلفة بورق لامع أحمر وملفوفة بشريط بنفسجي، وضعها أمامي، وتمتم بالأمنيات، شكرته، ثم طلب النادل فأتى، وطلب منه المشروب، فلم يتأخر النادل، وضع أمامنا ما طلبه منه ورحل.
ساد صمت طويل، حاول الحديث، وحاولت الإجابة، لكنه فشل وفشلتُ.
بدأت حركة المقهى تهدأ، والضجيج اختفى، وصوت النعاس ملأ الجو، وهمسات العمال تشير إلى أن المقهى كاد يغلق.
إذًا، فقد حان وقت المغادرة، قمنا وقد غفل عن دفع الحساب لولا جملة النادل: شرفتنا يا فندم. كما غفل عن أشياء أخرى مثل أنني لا أحب اللون الأحمر، وقد أقلعت عن شرب القهوة قبل أربع سنين، وقد أقلعت عنه هو أيضًا منذ ثلاث سنوات، بعدما تركني وسافر، ولكن ربما كانت السنين هي الفاعلة وليس هو.
غمغم بطلب لتحديد موعدٍ آخر، أجبته بأن الموعد القادم عليه أن ينتظره مني، وأنه غالبًا سيكون بعد أسبوع، في القاعة التي في الشارع الخلفي من المقهى، حيث سيُقام حفل زفافي، وأنه بلا شك سيكون أول المدعوين.
لقد غفلَ عن أشياء كثيرة، والتمست له كل الأعذار؛ فتمادى واقترض أعذارًا أخرى وأخرى، وقبلت حتى لم يعد في نفسي مكان لأي عذر، شكرته هذه المرة ففي المرة الماضية لم أتمكن من ذلك؛ منعتني دموعي، وقبل أن أرحل طلبت منه ألا ينسى هديته، فخطيبي قد يغضب إن رآها.